ثقافة وفنون وتلفزة

“سوبيتاكس”.. فيلم هامش الإدمان والبذاءة في مواجهة مركز أشدّ بذاءة

يقول مظفر النواب “اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية، بعضكم سيقول بذيئة، لا بأس .. أروني موقفا أكثر بذاءة مما نحن فيه”، ويقول المخرج نصر الدين السهيلي من خلال فيلم “لقشة من الدنيا” أو “سوبيتاكس” اغفروا للهامش الإدمان والعنف والبذاءة فالمركز أشد بذاءة.

عرّى السهيلي في فيلمه من خلال شخصيات “فانتا” و”رزوڨا” و”الناڨة” حقيقة موجعة صادمة حد الغثيان، حقيقة تجلت كامرأة تشق صفوف المصلين داخل مسجد وصوت الآذان يرتفع ليطمس صوت صراخها.

لن ننتظر يوم القيامة لنرى الجحيم

الجحيم بكل ما يحمله في المخيال من اسوداد واضطراب وألم، هو الفضاء الذي يعيش فيه أبطال الوثائقي “لقشة من الدنيا”، يتنفسون فيه وينامون وينعمون بنار الإدمان والعنف عن طواعية دون انتظار يوم القيامة. جحيم لا يبعد إلا أمتارًا عن شارع الحبيب بورقيبة، الشارع الذي ردد إسفلته صدى شعار “شغل حرية كرامة وطنية”.

يعيش أبطال الفيلم الوثائقي في “خربة” خارج السياق، وعلى الهامش حيث لا يلقون بالًا لشعارات الحرية والكرامة وليس الشغل عندهم إلا وسيلة لاقتناء المخدرات والمشروبات الكحولية. يعيشون على الهامش، ويأبون أن يكونوا جزءًا من دولة لفظتهم فتفوا في وجهها، لا يبالون بالواقع من حولهم، وهو قد لا يعني لهم سوى نشوة عابرة.

بصيص من الإنسانية

 أبطال الفيلم هم ضحايا المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهم ضحايا أنفسهم بما هي نتاج لكل هذه النظم، قطعوا الحبل السري ويعيشون في عالم مواز له نواميسه وأعرافه.

نصر الدين السهيلي نبش في عالم مدمني “السوبيتاكس” وجرّت الكاميرا الهامش إلى المركز، ونقلت يوميات “رزوڨة” و”فانتا” و”الناڨة” الذي حضر في الفيلم في لحظة مفصلية، لحظة قاسم فيها “فانتا” وجع الإصابة بالتهاب الكبد الفيروسي، وجع ربما خففه اهتمام “رزوڨة” بهما.

https://www.facebook.com/CineMadart/videos/673059113088251/?t=0

واقع “رزوڨة” و”فانتا” لا يشبه واقعنا ولكنه بعض من واقعنا، فردان من مجتمعنا لاذ كل منهما إلى الآخر، الأول مطرود من بلد أوروبي مدمن على “السوبيتاكس”، والثاني ضحية عنف مجتمعي يعاني العصاب ولم تستوعب أمه ذلك إلى أن انفرط العقد. يدس كل منهما رأسه في حضن الآخر لتنشأ بينهما قصة حب مختلفة ومتفردة.

 قصة حب في ثنايا الهامش، هي ليست بالمثلية بقدر ماهي بحث عن بصيص من الإنسانية، بحث عن أمان وملاذ، “فانتا” يرى في “رزوڨة” الأب والأم ويناديه أبي، و”رزوڨة” يحنو عليه فيحممه كطفل صغير ولكنه أيضًا يعنفه.

 هي علاقة متشعبة ترشح عنفًا وارتباكًا وحنانًا وقسوة وتوقًا، علاقة تجمع الكثير من المتناقضات ولا تخلو من الصدق.

هامش داخل الهامش

 لئن أخذنا السهيلي إلى الهامش حيث الواقع الموجع والصادم، هامش على الجهة الأخرى المناقضة للمركز، فإنه أخذنا إلى هامش آخر يقبع بين ثنايا الهامش المركزي. ويتجلى هامش الهامش في شخصية لطفي أو “فانتا” الذي يعيش على هامش الدولة وهامش عائلته وهامش “رزوڨة” في أحيان يسيطر فيها العنف على علاقتهما.

“علاج البوصفير صعيب وغالي” كان هذا رد الطبيب على “فانتا” حينما استفسر عن مرضه، كلمات قليلة ولكنها تترجم عمق الهوة بين فرد لا يملك بطاقة علاج ودولته التي من المفترض أن توفر له الرعاية.

 وبعيدا عن الهامش العام، “فانتا” ضحية الهامش الخاص، أمه لم تستوعب مرضه وكانت تضع الأغلال في قدميه إلى أن اختار جحيم “الخربة” ملاذا تقاسمه مع “رزوڨة” الذي تتراوح معاملته بين العنف والنعومة، “رزوڨة” متسلط عنيف وفظ ولكن ضميره حي يؤرقه ويؤجج داخله عقدة الذنب لأنه علّم “فانتا” الإدمان. حتى “الناڨة” الذي يقاسمه نفس المرض ونفس الوجع لم يتوان لحظة عن تعنيفه جسديًا ومعنويًا ونفسيًا، ويحرض ” رزوڨة” على تعنيفه.

 مهمش لكن حي

 سلط وثائقي “لقشة من الدنيا” الضوء على جزء من واقعنا، ونقل لنا يوميات مهمشين على سجيتهم، رمى في وجوهنا عنفًا وبذاءة وإدمانًا وفرحًا وسخرية من القدر واستسلامًا للمرض وبكاءً وندمًا ومشاعر أخرى يعرفها المهمشون ولا نعرفها.

 ورغم الانكسار وقلة ذات اليد والسواد والعفن، يسرق المهمشون لحظات فرح، ولا يرحبون بالموت وهم في ذروة الوهن. دموعهم قاسية، وهي ليست مجرد دموع بل أسواط تجلد كل مسؤول لم يلتفت إليهم، وضحكاتهم عميقة صادقة ومفعمة بالحياة.

هم أحياء داخل فلكهم، في فضائهم، في صراعهم وعنفهم وكلماتهم البذيئة وقوارير الجعة، لكن الآخر في نظرهم مرادف للاضطراب والتوتر وهو ما يتجلى في نوبات “فانتا” وخوفه من رحيل “رزوڨة” والعكس.

الواقع سيد السيناريوهات

“لقشة من الدنيا” فيلم وثائقي تسجيلي طويل، هو عصارة خمس سنوات من التصوير، اخترق حاجز الهامش ولكنه لم يمكن أبطاله من اختراق حاجز المركز، أبطال نعرفهم ولا يعرفونها أبطال رفضوا حضور عرض الفيلم خوفًا من الالتحام بالآخر.

بلا سيناريو، ولا حبكة درامية، ولا توجيهات من المخرج، ولا فريق تقني، ولد فيلم “لقشة من الدنيا”، ولادة سبقها مخاض عسير إذ لم يكن من الهين أن يخترق نصر الدين السهيلي عالم المدمنين وخاصة أن يقنعهم بأن ينكشفوا للآخر.

عوّل السهيلي على الجانب الإنساني في تصوير الفيلم من خلال ربط علاقة صداقة مع “فانتا” و”رزوڨة”، ولكنه ارتكب خطأ حينما أقحم فريقًا تقنيًا في التصوير، وفق حديثه عقب عرض الفيلم الخاص بالصحفيين.

 وفي حديثه عن تجربة التصوير الأولى، يقول السهيلي إنه من بين التقنيين من طلب إعفاءه من المشاركة في التصوير، ومنهم من لم يقدر على بناء علاقة إنسانية مع أبطال الفيلم، الأمر الذي اضطره إلى الاستعانة بالمخرج مراد المحرزي الذي استوعب أن الأمر لا يتعلق بفيلم بالمعنى المهني.

في “لقشة من الدنيا” لا ولي ولا سيد للأحداث، والمخرج مجرّد راصد يطلق العنان للكاميرا تغوص في الهامش وتقتنص صورًا من القاع الآسن والإنساني في ذات الآن.

“سوبيتاكس”، وإن كان عنيفًا إلى درجة قد ينفر منه البعض، إلا أنه يعرض حقيقة قد نخجل منها فنغمض أعيننا وندبر عنها، ولكنها تظل حقيقة لم يضف عليها السهيلي مساحيق تجميل بل عرضها كما هي عارية حافية مبعثرة تورطك معها حد الإحساس بالدوار.

وأنت تشاهد الفيلم لن تصادفك موعظة أو درس، أنت فقط ستكتفي بالنظر إلى تلك الهوة العميقة بين المركز والهامش وتتساءل كم تأوي هوامش تونس من “فانتا” و”رزوڨة” يلازمون الصمت إلى أن يصرخوا صرخة الوداع الأخير.

 

كتبته ل”الترا تونس”:يسرى الشيخاوي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى