“اتفاق الرياض”.. تسويق سلام على أنقاض العاصفة
كتبت :حكمة مصدق
الحرب والجوع والقحط والفقر ضيوف ثقيلة الظل حلت على ديار أهل اليمن وأبت الرحيل عنها.. خمس سنوات عايش فيها اليمنيون أسوأ كوابيسهم، حروب ونزاعات مسلحة مستمرة راح ضحيتها آلاف من الأبرياء وجعلت مستقبل اليمن غامضًا و مظلمًا وجعلت السلام مطلبًا بعيد المنال لم يتحقق بعد.
الوضع الأمني والاجتماعي والسياسي في اليمن معقد حد الثمالة كما هي تعقيدات تضاريسها الموزعة بين الجبلية والبحرية والسهول والوديان والصحراء وغيرها، وهو ما جعل الكثير من الأحداث تخرج دون نتائج ممكنة يتحمل أعبائها المواطن اليمني نفسه، في مشهد يكشف لنا المزيد من الأهمية لمكانتها الاستراتيجية الواقعة على البحر العربي الواصل بالبحر الأحمر ومنفذها البحري العالمي الهام المتمثل في (باب المندب).
اتفاق الرياض الأخير والموقع في الخامس من نوفمبر من العام الحالي 2019 بالعاصمة السعودية الرياض، هو مرحلة يُرجى منها أن تكون فارقة في حياة اليمنيين، وقد أتى هذا الاتفاق كمصالحة بين الحكومة اليمنية الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي بعد مصادمات مسلحة انتهت بسيطرة المجلس الانتقالي على العديد من المراكز والثكنات العسكرية التابعة للشرعية في جنوب اليمن ومنها (قصر معاشيق) بالعاصمة اليمنية المؤقتة (عدن)، والذي يعتبر رمز السيادة الشرعية في اليمن حاليًا.
اتفاق الرياض الذي هلل له الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية ومنها الأمم المتحدة، وكبر له المجتمع الدولي وباركته العديد من الحكومات وأساسها حكومات تحالف دعم الشرعية اليمنية أهمها السعودية والإمارات ومصر وغيرها.. إلا أن اتفاق الرياض في حد ذاته ليس اتفاق السلام الأول وعلى ما يبدو أنه لن يكون الأخير، فنظرة واحدة إلى الوراء تجعلنا نرى بوضوح الاتفاقيات التي سبقته، أبرزها اتفاق المبادرة الخليجية و اتفاق السلم و الشراكة و اتفاق ستوكهولم، اتفاقيات هي الأخرى سابقًا شغلت الرأي الإقليمي والعالمي لفترة من الزمن لكنها ظلت حبرا على ورق ولم تغير من واقع اليمن التعيس شيئا و لم تنجح في وقف إطلاق النار و لا الوصول إلى التهدئة التي يتطلع إليها الشعب اليمني برمته، و هذا ما يجعلنا نستنج أن اتفاق الرياض قد يصبح كسابقاته ليس إلا مجرد جرعات مخدرة تخفف الألم وقتيا لكن دون شفاءه أو وقف نزيفه.
ما يجعل استنتاجنا أيضًا أقرب إلى الصحة من أن اتفاق الرياض قد يمر مرور الكرام كسابقيه هو أن جميع الأطراف مازالت تحتفظ بقواتها وعتادها المسلح ولم تعد الشرعية اليمنية هي الوحيدة من تلك السلاح بل أن جميع كافة الطوائف اليمنية تمتلك السلاح بمن فيهم المجلس الانتقالي الجنوبي وكذلك الحوثيين في شمال اليمن، وهو ما يؤكد بقاء ضبابية المشهد وأن الإرادة الحقيقية للسلام مازالت تسير في طريق مظلم وربما مسدود.
سبب آخر يجعلنا ننحى إلى طريق هذا الاستنتاج أن السعودية التي أعلنت الحرب بالأمس (عاصفة الحزم) هي نفسها اليوم من ترعى خطوة السلام والتوقيع، و تحتفي به و تخضع أطرافه “اليمنية ” لوصايتها العلنية، حيث تسعى المملكة العربية السعودية من خلال هذا الاتفاق الذي منحته اسم عاصمتها أن تتسلم دور الوصي على اليمن علنيا و أن تجمل صورتها و تلمعها أمام المجتمع الدولي و تقدم نفسها كراعية للسلام و داعية له، بل تسعى أيضا من خلاله إلى بعث رسالة مضمونة الوصول إلى خصومها مفادها أنها تحكم السيطرة على كل الأمور و تسيرها وفق مشيئتها، رغم أن هذا الاتفاق لا يعبر عن انفراج الأزمة خاصة كما يراها بعض المحللين أن بنوده أعطت شرعية لمن كانت تصفهم الحكومة اليمنية بأنهم “لا شرعية لهم” ومنحت المجلس الانتقالي ما كانت تخشاه اعترافا و قبولا باقتسام السلطة و المناصب و هذا ما قد يضع عقبات جديدة أمام الحكومة اليمنية الشرعية ذاتها، وهي حكومة هشة ومنهكة في أساسها، وهو ما يُعتقد بأنه سيشتت جهودها و يصعب من مهمة الدولة الشرعية في مواجهة أي انقسامات أو خطر حقيقي متمثل في ما تسمى بـ “الميليشيات المسلحة”.
ولذا يتضح لنا جليًا بأن هذا الاتفاق كما أشرنا سابقا بأنه نابع من إرادة سعودية للتسويق لسلام مشهدي من توقيعها لكنه في الواقع لن يحل الأزمة اليمنية وفق المعطيات التاريخية والواقعية، لأنه بعيد عن جوهرها ولن يزيد إلا من تعميقها.