مسرحية “كيما اليوم” للمخرجة ليلى طوبال: نداء إنساني وسط فوضى العالم
في سياق عالمي تسوده الفوضى والصراعات، تأتي مسرحية “كيما اليوم” للمخرجة ليلى طوبال كعمل استثنائي يحمل بين طياته رسالة إنسانية كونية. وقُدّم العرض الأول لهذه المسرحية يوم السبت 18 جانفي على خشبة قاعة الفن الرابع بالعاصمة. وفيها أعادت ليلى طوبال، برؤية فنية متكاملة مزجت بين الخيال والواقع، طرح السؤال الأزلي: كيف نستعيد إنسانيتنا المفقودة؟
مسرحية “كيما اليوم”، وهي ثمرة إنتاج مشترك بين المسرح الوطني التونسي وشركة “الفن مقاومة”، حملت توقيع الفنانة ليلى طوبال في الكتابة والإخراج والسينوغرافيا. ويضم فريق التمثيل كلّا من مايا سعيدان وأصالة نجار ودينا وسلاتي وفاتن شرودي وخديجة محجوب وأسامة شيخاوي. كما يشارك في العمل عدد من المختصين في الجوانب التقنية هم فاتن جوادي المكلفة بالإنتاج وأمان نصيري مساعدة مخرجة وعمار لطيفي في تصميم الكوريغرافيا. أما تصميم الإضاءة فيشرف عليه صبري العتروس والهندسة الصوتية لمحمد هادي بلخير، مع مساهمة محمد بدر بن علي في تقنيات المابينغ، وتصميم الملابس لـمروى منصوري والتصميم الغرافيكي لـسيف الله قاسم والتنسيق الإعلامي لهند تقية. . أما الموسيقى التي ألّفها مهدي الطرابلسي وأدت بعض مقاطعها عبير دربال.
ويمكن اعتبار هذه المسرحية تأمل فلسفي في جوهر الإنسان وتناقضاته. وتدور أحداثها على مدى 80 دقيقة حول الطفلة “دنيا”، التي تختفي بعد سماعها نداء غامضا من أعماق الأرض يدعوها للعودة إلى الطبيعة. ويترك غيابها الشخصيات في حالة من الضياع والاضطراب، ليجدوا أنفسهم في متاهة خانقة تعكس معاناة البشرية في مواجهة تناقضاتها.
لكن “دنيا” هذه الطفلة وما ترمز إليه من براءة، تحولت أيضا إلى رمز للإنسانية المفقودة، فكانت الصوت الداخلي الذي يهجره الإنسان في خضم صراعاته المادية. شخصيتها تمثل البراءة والنقاء، وحضورها على المسرح – رغم غيابها– كان محورا للحبكة، حيث تحولت إلى دافع لتحريك الشخصيات في رحلة بحث عن الذات ومعنى الحياة.
وارتكزت المسرحية على سينوغرافيا مبتكرة عكست ببراعة رمزية المتاهة. فكان الجدار الخلفي المليء بالثقوب رمزا لذاكرة البشرية المثقوبة، التي تحاول عبثا استعادة نورها. وجسدت الحركة الديناميكية للممثلين وتصميم الكوريغرافيا، الذي أبدع فيه عمار لطيفي، حالة التيه الجماعي، بينما جاءت الإضاءة التي صممها صبري العتروس كعامل درامي يعكس التناقض بين محاولات البوح الفردية وقوة الشد الجماعي نحو الظلام.
وليست المتاهة في “كيما اليوم” مجرد فضاء مادي، وإنما هي أيضا استعارة رمزية لحالة الإنسان اليوم. وقد مثلت الجدران المتشابكة القيود الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تعيق تقدمه، في حين أن الضوء المتسلل من الثقوب يرمز إلى الأمل والمعرفة. وجسّد الممثلون بتحركاتهم المتعثرة على الركح وصراعاتهم الدائمة واقعًا مألوفا لكل مشاهد البحث المستمر عن الخلاص.
الحياة متاهة
وتعدّ مسرحية “كيما اليوم” تجربة فنية متكاملة شكلا ومضمونا أداء وتعبيرا وصوتا وصورة، فالنص الذي كتبته ليلى طوبال باللهجة التونسية جاء غنيًا بالشاعرية والمشاعر الفياضة مما جعله قادرا على إيصال رسائل تتجاوز المحلية لتصل إلى عمق القضايا الإنسانية العالمية. أما الموسيقى التي ألّفها مهدي الطرابلسي وأدت بعض مقاطعها عبير دربال فقد أضافت بُعدا عاطفيًا للعرض. ومن خلال التباين بين الألحان الهادئة واللحظات الموسيقية المشحونة، كانت الموسيقى أداة تعبيرية لإبرز تناقضات الشخصيات وتوترها الداخلي.
ومن الناحية التقنية، لم يكن الديكور مفرط التعقيد، بل اعتمد على بساطة رمزية، حيث ساهم الفضاء الركحي الفارغ في تسليط الضوء على أداء الممثلين. وقد كان التفاعل بين الهندسة الصوتية لمحمد هادي بلخير وتصميم المابينغ لمحمد بدر بن علي عنصرا أساسيا في نقل المشاهد إلى عالم المسرحية.
وتدعو ليلى طوبال من خلال هذا العمل للتفكير بعمق في القضايا الإنسانية التي أضحت مزيفة في عصر العولمة. فكانت بمثابة صرخة إنسانية تتجاوز حدود المسرح. وجاء العرض مشبعا بالرسائل الرمزية، إذ أن فقدان “دنيا” هو فقدان الإنسان لجذوره وقيمه، وعودتها مع نهاية العرض هي عودة للأمل ودعوة لإعادة اكتشاف إنسانيتنا قبل أن نفقدها تماما.
فرصة جديدة للإنسانية
تعود “دنيا” في لحظة الذروة إلى المتاهة، لكن ليس كطفلة بل كرمز للنضج والتجدد. وكان ظهورها وسط أجواء مفعمة بالفراشات المتراقصة والألوان الزاهية بمثابة إعلان لولادة جديدة للأمل. وتحولت المتاهة التي كانت طيلة العرض مكانا للتيه والضياع في النهاية إلى فضاء مفتوح يبشر بفرصة أخرى للبشرية.
وتضع المسرحية جمهورها أمام تساؤل وجودي مهم: هل نستحق فرصة أخرى لنعيش بإنسانية؟ الإجابة كانت واضحة بين طيات النص والعرض، الأمل موجود لكن تحقيقه يعتمد علينا نحن، على قدرتنا على مواجهة أنفسنا وإعادة اكتشاف جوهرنا الإنساني.
والفنانة المسرحية ليلى طوبال من مواليد سنة 1962 في مدينة حمام الأنف في الضاحية الشمالية للعاصمة. بدأت شغفها بالمسرح في سن مبكرة، لتصبح لاحقا إحدى القامات البارزة في المسرح التونسي. عملت لمدة 25 عاما إلى جانب الراحل عز الدين قنون، وأسست في عام 2014 شركتها الخاصة للإنتاج والتكوين المسرحي “الفن مقاومة”.
من أبرز أعمالها الأخيرة مسرحيات “سلوان” و”حورية” و”ياقوتة”، وهي أعمال استحشنها النقاد لتميزها بنصوص عميقة مشبعة بالرمزية والجماليات الفنية. كما شاركت في مهرجان قرطاج الدولي سنة 2022 بمسرحية “ياقوتة” والتي أعلنت على إثر هذا العرض اعتزالها التمثيل مع مواصلة ممارسة المسرح في الكتابة والإخراج.
وأصبحت ليلى أول امرأة ترأس لجنة تحكيم أيام قرطاج المسرحية سنة 2022، وحققت مسرحيتها “ياقوتة” نجاحا دوليا بنشر نصها في الولايات المتحدة ضمن كتاب يضم أنطولوجيا المسرح العربي المعاصر.