استاذ يكتب : رأيت صراع الواقع القبيح في طرح مبهر و جميل لمسرحية “كورينتي”
كتب الاستاذ المسرحي و المتفقد البيداغوجي احمد الصويعي مصباح :
دعيت من طرف الفنانة أسماء ثابت مخرجة عرض “كوررينتي” وكذلك من طرف زميلاتي استاذات التربية المسرحية المشاركات في العرض “هالة عزيزي” و”مها قعيدة”.
كان العرض مزدحما بالمعاني المباشرة والرسائل المبطنة.
والبداية مع العنوان “كوررنتي” إحالة لمدينة ” كورينثيا” الاغريقية وجاء في موسوعة ويكيبديا الالكترونية أن كورنثيا مدينة لها أصول ما قبل هيلينية، حيث تعود لمرحلة شعوب البحر، أما تبعاً للأسطورة فإن مؤسس المدينة كان كورينثوس (Corinthos)أحد الملوك من سلالة إله الشمس هليوس. وهناك أسطورة أخرى ترجع المدينة إلى الإلهه إفيرا (ephyra) ابنة التيتان أوقيانوس، وهكذا كانت المدينة قديماً تدعى أيضاً بهذا الاسم (إفيرا) حيث ظهر هذا الاسم في كتابات هومير التي أشارت بأن المدينة كانت محكومة من نسل ملكها الأسطوري سيسيفوس، وبأنها شاركت في الحروب الطروادية تحت قيادة أغاممنون.
لذلك أخرجت لنا المخرجة “أسماء” ابطال مسرحيتها من البحر مبللين بمياهه معطرين بأملاحه. ونفهم من حديثهم أن سفينتهم غرقت بهم ورمتهم الأمواج في جزيرة خالية من السكان ولا مصدر للأكل فيها. وشغلتهم خلافاتهم الاديولوجية والسياسية عن العمل والاجتهاد لإيجاد مصدر للعيش. ويفضحهم صراعهم فإذا بهم ليسوا من كورنثيا ولا من أثينا التي تبعد عنها بحوالي سبعون كيلومتر ولم يأتوا من القرن الخامس قبل الميلاد، وإنما هم من باردو وفي سنة 2022/2023 رمت بهم المعاناة اليومية في محطة البحث عن المواد الاستهلاكية المفقودة، بعدما حطمت النخب السياسية كل مراكب الكرامة. ولم يجد الناجون الثلاث من بد للعيش إلا أن يضحي واحد منهم من أجل البقية ويقدم نفسه ولحمه وشحمة هدية لزميليه وتحول ثلاثتهم إلى وحوش آكلة ومتلذذة بلحوم البشر. تذكرت وأنا أتابع المسرحية سورة الحجرات والآية رقم12 التي ورد بها “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ” وقلت في خاطري لعل القائمين على العمل يقصدون ذلك بما انتشر في مجتمعنا وعبر وسائل الاعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي من سوء الظن والنميمة والغيبة، ولكن الحوار بين ابطال المسرحية أعادني إلى ما هو أدهى وأمر وهو أننا بفعلنا اليوم وبالمسار الذي نحن فيه سنلجأ لنهش بعضنا البعض لكي نعيش. سنسرق ونحتال ونغش ونمارس أبشع الحيل من أجل أن نواصل البقاء على قيد الحياة. سيأكل بعضنا البعض. يقتل الضعيف ويُأكل، ويتسمم من لحمه العفن القوي المتجبر. لا أحد سينجو.
هذا هو فعل أبطال المسرحية، التحايل من أجل الإيقاع بالشريك وليس التعاون معه للبحث عن طوق النجاة. حتى ذلك الإله الذي رمته إليهم الأمواج واعتقدوا أنه منقذهم، كان أيضا جائعا وعاريا ومفقرا من الأفكار وجاهلا بسبل النجاة. لم تترك لنا المخرجة منفذا للأمل.
الواقع مؤلم ويحتاج إلى التعرية وإلى الألفاظ المباشرة ولكن يبدو أن العرض في بدايته خاصة سقط في الخطاب السياسي الفج، وكنت أفضله تورية لا تعرية. أبدع الممثلات في لعب أدوارهن الرجالية وتميزت هالة عزيزي في أدائها التراجيدي وهي تصارع رفاقها الذين تكالبوا عليها من أجل البقاء على قيد الحياة. كغزة اليوم تصارع وحدها الوحوش الا آدمية. وكانت ريم عبد الصمد خفيفة الظل منضبطة للدور الذي أسند اليها ويمكن أن تكون أجمل لو تمردت قليلا وتحررت بعض الشيء من دكتاتورية المخرجة. أما مهى قعيدة فأقنعت وهي تنصب نفسها حاكما بأمرها مستبدا ومستعدا لأكل كل أصحابه من أجل البقاء. البقاء في المنصب، البقاء على قيد الحياة البقاء في القاع. لكنها لم تستغل إمكانياتها الكوروغرافية في تجويد مجال الفرجة في العرض. أما أستاذي المبدع رضا بوقديدة فكان ايقونة العرض ومحوره رغم تواجده المختصر، وعي بالشخصية التي يلعبها وقدره على انتزاع الابتسامة رغم مرارة الحال وقتامة الموقف جاءنا في لباس القائد وانتهى بيننا عاريا الا من ملابس داخلية لا تستر عورته.
سينوغرافيا العرض كانت متعة بصرية ودلالة درامية وتناسق في الألوان يلفت الانتباه ولا يشتته.
ما لم افهمه أو لم أرد فهمه لماذا اختارت المخرجة ممثلات للعب أدوار رجال.