”لا أعرف من أين سأبدأ .. لأنّ الأم الحامل يتمّ استغلالها … يبحثون لها عن أقل خطأ لطردها وخاصّة إذا كانت تعمل لدى مؤسسة خاصة ” بهذه الكلمات افتتحت أمل (اسم مستعار) حديثها لنا عن معاناتها قبل وبعد ولادتها بابنها ‘محمد’.
تقول أمل (32 سنة) أنها كانت تعمل بمؤسسة تربوية خاصة مشهورة جدا في تونس العاصمة مؤكّدة أنّ هذه الأخيرة تعمّدت اقتطاع شهر لها من مرتبها على الرّغم من أنّ المرتب كان وضيعا جدا، كما أنّها تعرّضت لتضيّيقات قاسية أثناء فترة الحمل وبعد الولادة مما دفعها إلى ترك وظيفتها.
مُسترجعة ظروف عملها أثناء حملها، أفادت أمل قائلة ” أنا في الحقيقة لم أقل لهم في البداية أنّني حامل نظرا لما عاينته في تجربتي الأولى بعملي القديم وأنا حامل بإبني الأوّل”. وأوضحت أنّها تعمّدت إخفاء حملها عن المؤسسة الخاصة التي تعمل بها خوفا من طردها أو أن يتمّ التفكير في توظيف غيرها.
وأضافت أنّ سرّ الحمل كُشف بعد ثلاثة أشهر وذلك بعد أن بدأ بطنها في الظهور. هذا السرّ الذي بات واضحا للعلن أثار غضب وحُنق مدير المؤسسة الذي وبّخها وتعمّد الضغط عليها لتنقطع عن وظيفتها وتابعت بنبرة حادة قائلة ” قلت لهم أنّني بدأت أتعب، تصوّر بقاعة الدّرس ليس هناك كرسي لأجلس عليه، أحيانا أجلس على طاولة التلاميذ أو على طاولتي … هذا استغلال فاحش وبعد ذلك غادرت عملي”.
”الآن، بات المُشغّل يسأل النساء الباحثات عن الشغل إن كنّ متزوّجات أم لا لأنّه يُفضل أن يوظف امرأة غير متزوجة … بات حمل النساء العاملات بمثابة الجــريــمة ..” بهذه الكلمات اختتمت أمل حديثها لنا مستنتجة أنّ النساء العاملات يعشن بين مطرقة الأمومة وسندان العمل.
سُهى (35 سنة ) في إفادتها لنا ، أكّدت أنّها قرّرت بمفردها ترك عملها من أجل أن توفّر الرضاعة الطبيعية لإبنها. وأوضحت أنّ ظروف العمل تحول دون أن تقدّم الرعاية اللازمة لطفلها على غرار ساعات العمل الطويلة التي تقضيها بعيدة عنه ووعيا منها بأهمية الرضاعة الطبيعية وفوائدها على الأم والرضيع، حبّذت البقاء بجانب طفلها وفقدان وظيفتها.
تقول سهى ”ظروف العمل غير مُحفّزة… قرابة 12 ساعة غياب عن الطفل تحرمه من التمتّع بالرضاعة الطبيعية ، ضحيتُ بعملي وقلت في نفسي من غير الممكن أن أقضي كلّ ذلك الوقت بعيدة عن إبني في سبيل الحصول على المال ”
” أيضا أنا أعلم فوائد الرضاعة الطبيعية على الأم والطفل، بالنسبة للأم تقيها من الإصابة بسرطان الثدي أو الرحم والرضاعة الطبيعية تساعد الطفل على النمّو ويكون ذكي ”
وتُضيف سهى أنّ قرارها انقطاعها عن العمل من أجل توفير الرضاعة الطبيعية لطفلها كان بمثابة الصدمة بالنسبة للكثير من الأشخاص الذين انتقدوا قرارها
” تفاجئ الكثيرون من قراري وكانوا يقولون لي كيف لك تخسري عملك ؟ هل أنت مجنونة ؟ وكأنني أصبحت أنا حالة نادرة في وسط -عالم البيبرون-‘‘.
ودعت سهى كلّ النساء الأمّهات إلى ضرورة أن يمنحن أطفالهن حقهم في الرضاعة الطبيعية التي تؤثر كثيرا على نموّهم وصحتهم النفسية والجسدية. في المقابل انتقدت سهى الوقت الضيّق في العمل الذي لا يُشجع النساء على تمتيع أطفالهن بالرضاعة الطبيعية ويساهم في غالب الأحيان في دفعهن لمغادرة وظيفتهن.
” وقت العمل في تونس لا يُشجع المرأة على الرضاعة الطبيعية ، أنا أقول لو كان لي الحق في 6 أشهر عطلة أمومة ، كنت قد وفّرت لطفلي الرضاعة الطبيعية وعدت لعملي … نحن المشكل في تونس أنّ منح شهرين لعطلة الأمومة غير كافٍ والكثير من الدول في العالم تقدّموا كثيرا مقارنة بتونس … إنّ منح النساء العاملات عطلة أمومة كافية مع طفلها له العديد من المنافع عليها وعلى طفلها وعلى المجتمع ككل”.
تُعدّ أمل وسهى عيّنة صغيرة من بحر انتهاكات وظلم تعاني منه النساء العاملات الذين يخترن أن يكنّ أمّهات وكأنّ الأمومة مسألة تخصّ النساء فقط في ظلّ تغيّيب كامل لدور الأباء.
في تونس ، ضبط القانون عدد 112 لسنة 1983 المؤرخ في 12 ديسمبر 1983 والمتعلّق بضبط النظام الأساسي العام لأعوان الدولة والجماعات العمومية المحلية والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية في الفصل 48 مدّة عطلة الولادة وعطلة الأمومة ونصّ على أن تنتفع الموظفات بعد الإدلاء بشهادة طبية بعطلة ولادة مدتها شهران مع استحقاق كامل المرتب ويمكن الجمع بين هذه العطلة وعطلة الاستراحة في نهاية راحة الولادة.
ونصّ في فقرته الثانية أنه وفي نهاية راحة الولادة يمكن أن تمنح الموظفات بطلب منهن عطلة أمومة لمدة لا تتجاوز أربعة أشهر مع استحقاق نصف المرتب وذلك لتمكينهن من تربية أطفالهن وتمنح هذه العطل مباشرة من طرف رئيس الإدارة.
نسبة كبيرة من القوانين في تونس تظل حبرا على ورق، وهذا ما أكّدته العديد من الدراسات التي أثبتت أنّ المؤسسات العمومية التزمت في مجملها بتطبيق قانون عطلة الولادة والأمومة في حين أنّ نسبة كبيرة من المؤسسات في القطاع الخاصّ لم تُعِر هذا القانون اهتماما.
النساء العاملات في القطاع الخاصّ أصبحن عرضة للتميّيز، حتى أنّ الكثيرات قرّرن عدم خوض تجربة الأمومة فقط للحصول على عمل وتحقيق استقرارهن الإقتصادي بعد أن باتت العديد من المؤسسات الخاصّة تشترط قبول النساء العازبات.
بالنسبة للنساء العاملات واللاتي قرّرنا خوض تجربة الأمومة، وبمجرّد أن يعلم صاحب المؤسسة أنّ إحداهن حامل تتغيّر طريقة المعاملة ويحاول أن يجد لها أيّ خطأ مهني لإستبدالها بأخرى وحتى بعد الولادة لا تتمتّع الأم بشهرين كاملين وتجد نفسها بين خطر ترك وظيفتها وانقطاع مورد رزقها وتمتيع طفلها بالرضاعة الطبيعية أو أن تترك طفلها دون رضاعة طبيعية وتحافظ على وظيفتها وفي كلّ الحالات تظلّ الأم العاملة ضحية.
وكانت وزارة المرأة التونسية قد تقدّمت بمشروع تنقيح الفصل 48 الخاصّ بعطلة الولادة وعطلة الأمومة والذي يهدف إلى تمديد عطلة الأمومة والأبوة والوالدية في القطاعين العام والخاص وتحديد آليات تمويلها، في حين أنّ هذا المشروع بات منسيا في أدراج البرلمان القديم الذي تمّ حلّه من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيد في جويلية 2021.
منظمة صحفيون من أجل حقوق الإنسان مكتب تونس، وفي إطار مشروع “كندا العالم: صوت للنساء والفتیات”، أعادت تسليط الضوء على مشروع مقترح تنقيح الفصل 48 للتمديد في عطلة الأمومة من خلال عقدها لمائدة مستديرة يوم الأربعاء 21 جوان 2023، جمعت مجموعة من الخبراء وواضعي السیاسات وأحد نواب البرلمان الجديد وممثلي منظمات المجتمع المدني والأمھات العاملات.
تمّت مناقشة الوضع الحالي لإجازة الأمومة في تونس ومدى تطبيق القانون القديم مع تقديم العديد من الأمثلة عن الصعوبات التي واجهتها النساء العاملات في القطاع الخاصّ. كما تمّ التطرّق لكافة الجوانب التي يجب أن يشملها مشروع تنقيح الفصل 48 لضمان عمل لائق للنساء.
في مداخلتها ، أكّدت الباحثة المختصة في الجندرة والكاتبة العامة للجمعية التونسية لعلم الاجتماع نجاة العرعاري، أنّ تنقيح الفصل 48 يجب أن ينصّ على منح عطلة الأبوة ليقوم الأب بواجباته أيضا تجاه طفله مبيّنة أنّ الأم ليست المسؤولة الوحيدة على تربية الأبناء.
كما دعت إلى ضرورة أن يُلائم مشروع تنقيح الفصل 48 كلّ الحالات المدنية للنساء، المتزوجات، المطلقات، العازبات والأرامل. وأضافت أنّه من المفترض أن يتمّ منح الأم استراحة لتستعيد قواها بعد الولادة ولكي تتأقلم مع وضعيتها الجديدة ثمّ يتمّ منحها عطلة الأمومة.
وقدّمت كلّ من فريال شرف الدين ”المديرة التنفيذية لمنظمة كلام”، و هندة الشناوي ”باحثة في علم الإجتماع” تقرير كشف عن التضيّيقات التي تتعرّض لها النساء في تونس خلال فترة الحمل وأثناء الولادة وبعد الولادة وتقدّمن بمجموعات توصيات تمحورت أساسا في التمديد في عطلة الولادة والأمومة والتمديد في عطلة الأبوة مع ضرورة التنصيص على عطلة والدية يتمتع بها أحد الوالدين بطلب من أحدهما.
أيضا توفير الإرشاد الطبي والنفسي خلال فترة الحمل وأثناء الولادة وفترة ما بعد الولادة للأم مع توفير محاضن عمومية قرب مراكز العمل وتوفير غرف شفط حليب آمنة للأمهات العاملات. وأكّدن على أهمية تشديد العقوبة على المخالفات التي تفضي للتمييز ضد النساء والأمهات من حرمان من الشغل والطرد وحرمان من العطل
لنُشر إلى أنّ مقترح تنقيح الفصل 48 للتمديد في عطلة الأمومة ينصّ على على تنقيح الفقرة الأولى كالآتي ”تنتفع الموظفات بعد الإدلاء بشهادة طبيّة بعطلة ولادة مدتها أربعة أشهر مع استحقاق كامل المُرتب ويُمكن الجمع بين العطلة وعطلة الاستراحة”
وتنقيح الفقرة الثانية ”وفي نهاية هذه العطلة يُمكن أن تمنح الموظفات بطلب منهنّ عطلة أمومة لمدّة لا تتجاوز ستة أشهر مع استحقاق نصف المُرتّب وذلك بتمكينهنّ من تربية أطفالهن وتمنح هذه العطل مباشرة من طرف رئيس الإدارة”.
النصوص القانونية والاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تحمي المرأة والطفل
دستور تونس 2022: الفصل 51 ”تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها”
” تضمن الدولة تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة في تحمّل مختلف المسؤوليات وفي جميع المجالات. تسعى الدولة إلى تحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة. تتّخذ الدولة التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضد المرأة”
الفصل 52 ” تحمي الدولة حقوق الطفل، وتتكفل بالأطفال المتخلى عنهم أو مجهولي النسب. حقوق الطفل على أبويه وعلى الدولة ضمان الكرامة والصحة، والرعاية، والتربية، والتعليم. وعلى الدولة أيضا توفير جميع أنواع الحماية لكّل الأطفال دون تمييز وفق المصالح الفضلى للطفل”.
اتفاقية العمل رقم 183 لمنظمة العمل الدولية (ILO): تعتبر هذه الاتفاقية واحدة من أهم الاتفاقيات الدولية في مجال عطلة الأمومة. تنص الاتفاقية على ضرورة منح النساء عطلة مدفوعة الأجر للأمومة بمدة لا تقل عن 14 أسبوعًا. كما يجب أن تشمل هذه العطلة إجازة ما قبل الولادة وما بعدها، وتشترط أيضًا حظر العمل الليلي والعمل الخطر أثناء فترة الحمل وبعد الولادة.
اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW): تعتبر هذه الاتفاقية إطارًا دوليًا شاملاً لحقوق المرأة. تحدد الاتفاقية حق المرأة في الحصول على إجازة الأمومة بمدة ملائمة ومدفوعة الأجر، وتحث الدول الأطراف على اتخاذ تدابير لحماية الأمومة وضمان الدعم اللازم للنساء العاملات أثناء فترة الحمل وبعد الولادة.
اتفاقية حقوق الطفل للأمم المتحدة (CRC): تنص هذه الاتفاقية على ضرورة توفير الحماية والرعاية اللازمة للأطفال، وتعزز حقوق الأمهات في العمل والاستفادة من إجازة الأمومة المدفوعة الأجر. تشدد الاتفاقية على ضرورة تقديم الدعم اللازم للأمهات لتحقيق توازن مثالي بين الحياة العملية والحياة الأسرية.
اتفاقية القوى العاملة في الخدمة العامة للأمم المتحدة (PSWLC): تهدف هذه الاتفاقية إلى تعزيز حقوق العمال في الخدمة العامة، بما في ذلك النساء العاملات. تنص الاتفاقية على حق النساء في الحصول على عطلة الأمومة مع الحفاظ على وظائفهن وفرص متساوية للترقيات والتدريب.
إن إنجاب الأطفال يلعب دورًا حاسمًا في استمرارية الجنس البشري ونموّه، ومع ذلك لا يجب أن تتحمّل المرأة بمفردها مسؤولية تربية الطفل نظرا لدورها البيولوجي وتُضحي بوظيفتها. يجب أن تتمتع النساء بصفة عامة والنساء العاملات بصفة خاصّة بحقوقهن في عطلة الولادة وعطلة الأمومة وكذلك يجب أن تعمل الدولة التونسية على منح الرجل عطلة الأبوة لتعزيز المساواة بين الجنسين وتحقيق توازن بين الحياة العملية والأسرية.
مقال بقلم الصحفية التونسية يسرى رياحي