الوطنية

الجمهوريّة التائهة في صراع دولة عميقة نراها و دولة أعمق لا نراها

لا يمكن اختزال النظام العالمي الجديد و ولادة العولمة في إعادة توزيع النفوذ و المجالات الحيويّة و لا في الصراعات الجيوسياسيّة الجديدة إنّنا أمام تحوّل عميق غيّر تركيبة الاقتصادات العالميّة و زعزع الأنسجة المجتمعيّة لكلّ الدول هذا التغيير جاء محمّلا بأدواته القيميّة و بالأدوات التي ستثبّت تلك الأدوات كعناصر و كإحداثيات للكائن المعولم الجديد .
تمّ نشر النموذج الاستهلاكي عبر العالم كما تمّ اقتياد الاقتصادات المغلقة و المجتمعات المنغلقة في غفلة المتيقضين و الغافلين و تكفّلت المعلوماتيّة بضرب كلّ البنى و تغيير طبيعة الفعل السياسي لتكون الأوطان و الرقاب تحت السلطة المباشرة الرأسمال المالي و سلطات مخفيّة تحرّك سلطة الافتراضي بشكل يدحض كلّ الفرضيات الكلاسيكية التي تحكّمت لقرون في الفعل و القرار في عصر ما قبل العولمة و الثورة المعلوماتيّة .
بعيدا عن الأخلاقويات الخطابيّة و الدّجل السياسيّ و عن سماسرة الدين و تجارة الشأن العام هنالك صراع حقيقي و حرب طاحنة لتحديد وجهة الجمهوريّة أو لتحويلها .
تتشبّث الحركات الدستوريّة بوصفها الطرف السياسي الأكثر جدّية في المشهد و الممثّلة بقوّة في الدّولة العميقة ( محلّيا ) و الدّولة الأعمق في مستوى ارتباطها بالمنظومة الدوليّة و بموازناتها السياسية العامّة بالحفاظ على جمهوريّة بورقيبة الاجتماعية في إطار انفتاح تدريجي سياسيّا و اقتصاديّا
هذا الخيار دفع ثمنه نطام بن علي الذي رفض تحرير الدينار و الحدود بمعناها الاقتصادي و العسكري و كان في انتظاره الإخوان الذين لا إخوانا لهم و لا حدود عندهم للوطن و الفعل و لكنّ الدولة العميقة لم تسمح لهم بتثبيت أقدامهم على أرض بورڤيبة .
لا زال الصراع قائما إلى اليوم بين مشروع وافد ل” لبرلة” دولة لا سيادة لها و مشروع دولة اجتماعية تحمي حدودها الاقتصادية و الاجتماعية و نسيجها إلى حدّ ما .
في خضمّ هذا ” التوازن الكارثي” بين سلطة المنظومة الدولية و توجّه الطرف السياسي الأكثر وجودا على الأرض فتحت الساحة لأطراف سياسية لم تستوعب حقيقة الصراع فانخرطت في كلّ الصراعات الجانبية إلاّ الصراع الحقيقي الواقعي .
في الأثناء صعد سعيّد للحكم و حصل ما حصل بعد 25 جويلية و تمّ توجيه الدّولة بقوّة الأجهزة في اتّجاه ليبرلية مشوّهة تمهّد لليبرالية حقيقية علميّة قد يطول قدومها أو يقصر حسب مصير الصراع الدستوري – الدّولي أو صراع الدّولة العميقة و الدولة الأعمق.
ما يعيق المنظومة لحسم الصراع هم ” الدساترة” و ما يعيق الدساترة هوّ تعديل الخطاب و السلوك السياسي على عقارب العولمة أو على الأقل نسيان السلوك السياسي لدولة ما قبل 14 جانفي رغم كونها ثورة مفتعلة صنعت في مخابر دوليّة في إطار صراعات جيوسياسية دولية كما لا يفوتنا التذكير بمركزيّة فكرة التجميع أو التحوّل لعنصر التجميع الأكبر بوصفها الورقة الأهمّ لفرض البند الاجتماعي في حال عاد المشهد للدساترة .
ما بين الجمهوريتين المتصارعتين : الاجتماعية و الليبرالية يتواصل حكم سعيّد مسنودا بالأجهزة و إن كنّا بدأنا في التمهيد للدولة الليبرالية و التي تختلف ملامحها و أدواتها و آلياتها جذريّا عن دولة الدساترة .
في اعتقادي هذا هوّ الصراع الاستراتيجي و ما تبقّى هوّ اشتباك لتأثيث المشهد و للتمهيد للدّولة الليبرالية التي لا تزال مشروعا رغم ما تمّ إنجازه في اتجاهها .
الكاتب والمحلل السياسي فوزي النوري 28 نوفمبر 2022

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى