محمود الغيطاني الكاتب المصري : المثقف دائما يسار السلطة ولا أرى تونس تابعة للجزيرة العربية
حاورنا هذا الاسبوع الكاتب المصري والناقد السينمائي محمود الغيطاني صاحب رائعة كائن العزلة وتحدثنا معه حول كتاباته وعلاقته بالسلطة وزياراته لتونس
محمود الغيطاني، لو تُعرّف بنفسك للشعب التونسي.
أظن أن التوانسة يعرفونني جيدا، أو على الأقل المثقفين منهم؛ فأنا روائي وناقد سينمائي وأدبي أعمل في الصحافة. سبق أن حاورت البعض منهم كالصديق الروائي شكري المبخوت، وكمال الرياحي، وكتبت أيضا عن بعض أعمالهم دراسات نقدية مثل شكري المبخوت وكمال الرياحي ومحمد الحباشة وعثمان لطرش ومها الجويني، وغيرهم، صحيح أن بعض هذه الدراسات لم تُنشر كلها بعد، لكني تناولت أربعة أعمال روائية تونسية في كتابي الأخير “الفساد السياسي في الرواية المغاربية”، وهناك الكثير من الأعمال التونسية الإبداعية الأخرى التي أنا بصدد الكتابة عنها. كما أني مُتابع جيد للسينما التونسية لاسيما ما يصنعه المخرج المتميز معز كمون وما قدمه من أفلام كان آخرها فيلمه “حرة”، والمخرج محمود بن محمود، والناصر خمير، والتونسي الأصل، الفرنسي الجنسية عبد الفتاح كشيش، وغيرهم، كما أظن أن السينما المغاربية تحتاج إلى كتاب نقدي يتناول ما تقدمه من أفلام مهمة سأنجزه قريبا. وكتبت تغطية صحفية لمعرض تونس الدولي للكتاب على مدار عامين؛ نظرا لتميزه. أظن أن هذا ما يهم التونسيين عني.
– ما هي آخر كتاباتك الجديدة؟
صدر لي منذ شهر تقريبا كتاب “جنة الممسوسين.. حوارات في الفكر والثقافة والأدب” عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهو كتاب يتناول مجموعة كبيرة من الحوارات التي أجريتها مع عدد كبير من الروائيين والكتاب والمثقفين العرب والمصريين أثناء فترة عملي في الصحافة الأدبية، وهو كتاب يُضيف الكثير للمشهد الثقافي؛ نظرا لأن الحوارات مع الكتاب بمثابة العتبة الأولى للدخول إلى عالمهم لاسيما إذا ما كان الحوار بين روائي وناقد مثلهم. كما صدر لي منذ أيام كتابي الأخير “الفساد السياسي في الرواية المغاربية” وهو الكتاب الذي تناولت فيه أربعة عشر عملا روائيا من دول المغرب الكبير تهتم بالفساد السياسي، أو أثره الاجتماعي على المجتمع المغاربي، وقد انقسمت الأعمال التي تناولتها إلى ثلاث روايات مغربية، وسبع روايات جزائرية، وأربع روايات تونسية، تٌناقش كلها شكل الفساد السياسي وتفشيه في كتلة المغرب الكبير وأثر هذا الفساد على حياة المجتمع المغاربي، لكني لم أقتصر في هذه الدراسات الطويلة على تناول الفساد السياسي في هذه الأعمال الروائية وتجلياته فقط، بل تناولت كناقد أيضا فساد الشكل والبناء الروائي، والأسلوبي في بعض هذه الأعمال.
– ما هو الكتاب الذي كان محطة الحظ في حياتك؟
ليس هناك ما يمكن أن نسميه كتاب الحظ بالنسبة للكاتب، ولكن بالفعل هناك بعض الكتب التي يكون لها دور كبير في حياة الكاتب؛ فروايتي الأولى، مثلا، “كائن العزلة” كانت من الأعمال المهمة التي كتب عنها الكثيرون، وظلت طوال عام بالكامل محط أنظار الصحافة في مصر، وهي من الأعمال التي كرست لي كروائي منذ العمل الأول، ولكن هناك كتب أخرى كان لها الكثير من الحظ مثل كتابي النقدي “زيف النقد ونقد الزيف.. احتضار النقد العربي” وهو الكتاب الذي تناولت فيه فساد الحياة الثقافية في العالم العربي وفساد الجوائز والنقاد، وبالمقابل هناك أعمال كانت فرصتها ضئيلة من الحظ رغم أهميتها مثل كتابي “السينما النظيفة” الذي أناقش فيه مفهوم مصطلح “السينما النظيفة” الذي نشأ في مصر في فترة من الفترات، والسبب في نشأة هذا الاصطلاح العجيب سواء على المستوى الفكري أو السياسي، أو الأيديولوجي، كما أشرت في هذا الكتاب إلى أن المصطلح كان موجودا منذ فترة طويلة في مصر منذ القرن الماضي لكن مفهومه كان مختلفا تماما عما عرفناه مؤخرا، حيث كان يعني السينما الجادة والجيدة التي تتناول السينما كفن حقيقي.
– علاقتك كبيرة بالمغرب الكبير- تونس، والمغرب، والجزائر- فما هي هاته العلاقة؟
تأتي علاقتي بالمغرب الكبير من خلال متابعتي بكثب عما يدور في حياتها الثقافية والسياسية؛ فلقد تناولت عشرات الأعمال المغاربية الروائية بالنقد، وربما أعرف الحياة الثقافية فيها أكثر مما يعرفه بعض مواطنيها، وهناك الكثير جدا مما يدور في الكواليس لديكم أعرفه أكثر مما يعرفه المواطن المغاربي، هذه المعرفة القوية هي ما جعلت علاقتي بالمغرب الكبير وثيقة، كذلك جعلت صداقاتي فيها أكبر بكثير من صداقاتي في مصر. فلكي تعرف مجتمع ما لا بد من متابعته على جميع الأصعدة، وأنا أتابع السينما المغاربية بشكل جيد، ومنخرط في الحياة الثقافية المغاربية، كما أني أتابع الصحافة فيها بشكل قريب. هذا ما جعل العلاقة بيني وبين المغرب الكبير وثيقة. ولأني أرى أن كتلة المغرب الكبير هي كتلة مستقلة بذاتها ولها خصوصيتها المختلفة بعيدا عن المنطقة العربية؛ فلقد كان هذا هو السبب في أني استبعدت أي دراسة نقدية لي في القصة المغاربية القصيرة من كتاب جديد انتهيت منه يتناول القصة العربية القصيرة في جميع الدول العربية، كي يكون هناك كتابا نقديا خاصا في القصة المغاربية القصيرة سأنتهي منه قريبا بعيدا عن القصة العربية القصيرة.
– تنتقد وبشدة النظام المصري، فهل هذا مبدأ أم هناك أسباب واضحة تتركك تنتقد نظام السيسي؟
المثقف دائما على يسار السلطة، صحيح أنه على يسارها بشكل لا مجانية فيه، لكني لا يمكن أن أثق فيك ككاتب ومثقف إذا ما كنت تابعا وذيلا للسلطة، لاسيما أن السلطة في المنطقة العربية بالكامل فاسدة ومفسدة لكل شيء، وإذا ما كنت أخذت على كاهلي منذ فترة طويلة محاربة الفساد والزيف في الحياة الثقافية العربية في كل ما أكتبه، فهل تعتقد أن الفساد الثقافي من الممكن له أن ينفصل عن الفساد السياسي؟ بالتأكيد لا؛ فالفساد الثقافي هو نتيجة طبيعية للفساد السياسي، أي أنه تابع له، وإذا ما رغبت في إنهاء الفساد في الثقافة؛ فلا بد له أن ينتهي في السياسة أولا. صحيح إني لست بسياسي، ولا أحب تناول السياسة، ولا يستهويني العمل السياسي؛ فمهمتي الأولى هي الثقافة فقط، لكني كمواطن أبدي رأيي فيما يدور حولي من فساد سياسي، سواء كان بشكل من السخرية، أو بشكل فيه من الفظاظة ما لا يحتمله البعض. أنا في النهاية مواطن يعاني من كل هذا الفساد الذي يدور حوله؛ فهو يؤثر في كما يؤثر في الآخرين؛ لذلك لا بد لي من انتقاده، رغم عدم عملي في السياسة التي أكرهها ولا تستهويني. هذا الانتقاد للنظام ليس وليد الفترة الأخيرة؛ فمن يعرفني جيدا يعرف أني كنت أنتقد كذلك وبنفس الطريقة الإخوان المسلمين الإرهابيين حينما تولوا زمام الحكم في مصر، وأثناء فترة حكمهم الذهبية بالنسبة لهم-، أي أنه ما دام هناك فساد؛ فبالتأكيد سيكون لي رأيا في هذا الفساد.
بالطبع ليس هناك أسبابا واضحة أو غير واضحة تتركني أنتقد النظام في مصر؛ فالمعروف أن حرية الرأي والتعبير في مصر باتت تحت مستوى الصفر، وكل من يفتح فمه بالانتقاد مُعرض بين لحظة وأخرى للاعتقال، أو الاختفاء قسريا، أو التضييق عليه سواء من قبل السلطة ذاتها، أو من قبل المجتمع نفسه. وأقل ما يمكن فعله لمن ينتقد السلطة هو التجويع واستبعاده من أي مكان إعلامي أو منصب من الممكن أن يُتيح له أن يقول من خلاله رأيه. وهذا ما يحدث مع الكثيرين على أرض الواقع.
– هل أنت متضايق ومقيد في مصر؟
هل تعتقد أن هناك من له رأي لا يشعر بالضيق أو القيود المفروضة عليه؟ كلنا مقيدون، ولكن بدرجات متفاوتة وتختلف من شخص لآخر، المهم هو كيف تستطيع التعامل مع هذا الضيق أو التكيف معه، ومحاولة تجاوزه.
– رأيك في الموجة الأخيرة لفناني المهرجانات بمصر.
لا يمكن وصف هؤلاء بوصف “الفنان”؛ فالفن بعيد عنهم كل البعد. هل تستطيع أن تفهم شيئا من هذا الضجيج الذي يفعلونه؟ هو مجرد ضجيج يؤدي بك إلى الصداع وإفساد الذوق وكل ما يدور من حولك. هم في ذلك لا يختلفون كثيرا عن الكثيرين من الكتاب الذين يكتبون لنا الكثير من الغثاثة ويظنون أنها كتابة أدبية، كذلك المخرجين الذي يقدمون لنا التافة والركيك من الأفلام وهم يظنون أنهم يصنعون سينما لا مثيل لها. إذا ما رغبت في تقديم فن ما؛ فعليك بالإطلاع على فنون الآخرين كي تعرف موطئ قدمك من الفن، وعليك أن تأخذ الأمر بجدية لا مثيل لها، وتكتسب من الدأب والإصرار على الجيد ما لا يمتلكه غيرك أنت فقط. أي أنك كي تصنع فنا جيدا عليك أن تكون محاربا حتى لنفسك وليس للعالم، أي تأخذ نفسك بقسوة لا مثيل لها؛ كي تقدم كل ما هو جيد، أن تتمرد على الذات في كل ما تفعله ولا ترضى عنها؛ لأنك بمجرد ما رضيت عن نفسك وما تقدمه؛ اعلم أنك قد بدأت تقدم ما هو غث وركيك ومبتذل.
– دور النشر والكتاب في تونس في انقراض واضح عكس مصر. حسب رأيك ما السبب؟
لا أظن أن دور النشر والكتاب في تونس في انقراض؛ فلديكم أنشط دار نشر في المنطقة العربية والتي تقدم لنا أعمالا مهمة جدا قد لا نراها لدى غيرها من دور النشر الأخرى وهي دار مسكلياني لمديرها شوقي العنيزي، ولديكم أيضا دار “زينب” التي تنتج الكثير جدا من الأعمال الإبداعية في تونس، وغيرها من دور النشر، أما بالنسبة لدور النشر المصرية فأظن أنك لا يجب أن تُعوّل عليها كثيرا؛ هي مجرد “دكاكين بقالة” في معظمها، أي أنها دكان للطباعة فقط ومعاقبة المؤلف بالاستيلاء على ماله؛ نتيجة لأنه اقترف جريمة الكتابة؛ فيكون عقابه الأول من دور النشر هو استلابه المال كي ينشر، ثم لا تقوم بعملها في التوزيع، أي أنهم ينشرون بمال المؤلف فقط ثم لا يوزعون ولا يعنيهم هذا التوزيع؛ لأنه قد ربح بمجرد الطباعة فقط. بالتأكيد ليست كل دور النشر المصرية هكذا، ولكن الأغلب الأعم منها كذلك؛ لهذا أقول لك لا تعوّل كثيرا على كثرة دور النشر المصرية؛ فهي كزبد البحر وليست في حقيقتها بدور للنشر. والحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن النشر في المنطقة العربية بالكامل ليس نشرا حقيقيا، بل هو مجرد طباعة كتب فقط؛ فأين الناشر الذي يمنح المؤلف حقوقه اللهم من رحم ربي منهم؟ وهذا يتوقف على اسم المؤلف فقط ومدى تقدير الناشر لمقدرة هذا الاسم على البيع والرواج، وثقته فيه.
– زرت تونس عدة مرات، فهل تركت لك تونس مشاعر معينة، أم هي زيارات عمل وحسب؟
زياراتي جميعها لتونس كانت في حقيقتها زيارات عمل، ولكن لكثرة صداقاتي فيها لم تكن بالنسبة لي مجرد زيارات عمل، بل زيارة إلى بلد أحبها كثيرا ولا أشعر فيها بالاغتراب، بل بالترحيب والحميمية من قبل الكثيرين جدا من الكتاب والأصدقاء القريبين لقلبي. وهي بالتأكيد تركت لي الكثير من المشاعر التي تجعلني أشعر فيها بأنها بلدي التي أتحرك فيها كيفما يحلو لي، وأقول ما أرغبه من دون خشية انتقادي؛ فالمجتمع التونسي هو مجتمع مبني على التعددية وتقبل الآخرين وآرائهم مهما كانت صادمة؛ لذلك تسود فيه مثلا مفردة “يربرب” بكل سهولة، بل هو مجتمع في الغالب منه يتقبل النقد ولا يتخذ موقفا عدائيا ممن ينتقده كغيره من المجتمعات، صحيح أنه فيه ما هو موجود من أمراض اجتماعية موجودة لدى كل الدول العربية، لكني أظن أن أمراضه الاجتماعية أقل كثيرا من غيره من الدول العربية.
– هل من الممكن تسميتك بالكاتب المشاكس بمصر، وإلام تطمح سياسيا في مصر؟
أنت وغيرك قد ترون أني مشاكسا، لكني لا أرى ذلك؛ فأنا أرى نفسي طبيعيا، وفي الشكل الذي يجب أن يكون عليه المثقف، لكن المجتمعات العربية قد تم تدجينها تماما والسيطرة عليها؛ فانقلبت المعايير؛ ومن ثم بات من يبدي رأيه بشكل واضح وصريح ومُعلن من دون مداورة مجرد مشاكس. وهذا بالتأكيد انتقل إلى كل المجالات لاسيما النقد؛ فبات من يبدي رأيه النقدي الحقيقي والموضوعي والحيادي كما يجب أن يكون مجرد مهاجم، وقد يكون له مصالح، أو طامعا، أو حاقدا ويشعر بالغيرة، وهذه كارثة حقيقية أفسدت كل شيء لاسيما الثقافة العربية التي باتت ثقافة المجاملات والشلليات والإطناب في المدح بغير وجه حق. عليك أن تقول للفاسد: أنت فاسد في وجهه، كذلك للفاشل في مجال الكتابة: أنت فاشل وتُفسد الكتابة بما تفعله، وبالضرورة أن تقول للجيد: أنت جيد ومتميز فيما تذهب إليه.
ليس لدي طموحا سياسيا؛ لأني لا أحب السياسة ولا أعمل بها، لكني أتمنى أن نكون مجتمعات أقل فسادا سياسيا مما نراه اليوم؛ فالحكومات العربية تنكل بالمواطن بشكل مدهش.
– لو يتم طلبك للعمل بالرئاسة المصرية حاليا، أو بمنصب قريب من السلطة فماذا سيكون رأيك؟
لا أحب أن أكون قريبا من السلطة؛ فأنا أكره أي سلطة وأشعر بالنفور الحقيقي منها، وأرى أن القوانين قد وُضعت في الأساس لمخالفتها وليس من أجل الانصياع لها، ولا أظن أني من الممكن لي الانخراط في دائرتها يوما لأكون مجرد ترس في فسادها وسلطويتها يمكن الاستغناء عنه فيما بعد حين الانتهاء من أداء مهمته الفاسدة؛ فكل من ينخرط في السلطة هو مجرد أداة مؤقتة لتأدية مهمتها، لكنها سرعان ما يتم الاستعاضة عنها بأداة أخرى، بل والتنكيل بها فيما بعد بعدما تكون قد فسدت على كل المستويات وعاجزة عن العودة إلى صلاحها. كما أن عودة من ينخرط في السلطة إلى قواعده الأولى لا يمكن أن تقنع أحدا فضلا عن أنها لا تقنعه هو نفسه بعدما تحول إلى كائن شائه لا قيمة له.
– كلمة ختام منك للشعب التونسي خاصة، والمصري أيضا.
أرى في تونس محاولات جادة وحثيثة ومخلصة من أجل صناعة ثقافة حقيقية تخص المواطن التونسي أولا قبل تصديرها إلى الآخرين، ولعل تونس من أولى الدول العربية في خصوصية ثقافتها التي نشأت على المجتمع المدني والنفور من المجتمعات الدينية الثيوقراطية. هذا النفور من الثيوقراطية هو أهم ما يميز المجتمع التونسي ويدفع دفعا إلى الكثير من التقدم على المستوىين الثقافي والفني. أما المجتمع المصري الذي نشأ وسطيا فهو للأسف بات منغلقا وينجذب بقوة للتغييب والعودة إلى الماضي منخرطا في ثقافة دينية وهابية غريبة عليه تم استيرادها من الجزيرة العربية رغم أنها ثقافة لا تخصه ولا تعنيه، لكنها للأسف سيطرت عليه ربما بسبب رأس المال والإفقار والهجرة للجزيرة العربية وبالتالي أدت بقدر كبير إلى انتزاع هويته الثقافية التي ميزته على مدار مئات السنين، وأصبح من دون هوية مميزة كما كان سابقا.
حاوره أيمن قريسة